174

خريطةطريق ثقافية الأخيرة لقد قضيت ما يقرب من خمسين عاماً في معترك السياسة والدبلوماسية ... عاصرت القضايا العربية الكبرى، وأتاحت لي الظروف أن أكون في القلبمن بعضها... شهدتسنواتصعود وانتصار ، وأحسست بمرارة الهزيمة والانتكاسة ... وبعد كلهذه السنواتمازال السؤال يلح على ذهني ويشغل فكري: هل مأزقنا العربي هو أزمةسياسة أم ثقافة؟ ربما يستسهل أهل السياسة إلقاء اللوم على أهل الثقافة، ولكنني أقولها صادقا بعد كل هذه العقود من الانشغال بالشأن السياسي والدبلوماسي.. الثقافة في تقديري تأتي أولا، وكل شيء آخر يأتي بعدها.. الثقافة هي المبتدأ والمنتهى في أي مشروع وطني أو عابر للأوطان .. وهي البنية الأساسية التي لا غنى عنها لأي إنجاز حضاري.. السياسة فرع من الثقافة، وأحد منتجاتها. الأديب الكبير والمربي التونسي الفاضل محمود المسعدي قال ذات يوم: «أعطوني زراعة أضمن لكم حضارة» ، والحق أن هذا المعنى ينطبق أكثر على الثقافة. أعطوني ثقافة ، منفتحة ومبتكره ومتجددة، اضمن لكم انجاز حضاريا . بل أن الثقافة ، بمعناها الشامل ومفهومها الواسع، هي الحضارة ذاتها ... الثقافة هي منهج فكر وأسلوب للعيش، وطريقة للحياة. بالثقافة قبل إي شيء أخر. وإذا كانت المجتمعات العربية تمر بأزمة كبرى وممتدة نشهد – في تقديري – المأزق العربي الراهن يرتبط جميعا تداعياتها على النسيج الوطني في بعضالدول.... فإن علينا أن نبحثفي الثقافة أولا وقبل إيشيء أخر. علينا أن نسائل أنفسنا، بشجاعة وتجرد، عن الحال الراهنة لثقافتنا العربية. هل أنتجتهذه الثقافة مجتمعاتمنفصلة عنعصرها، اقرب إلى نماذج بائسة من الماضي منها إلى نماذج مشرقة من المستقبل، مزعزعه في خياراتها الرئيسية، حائرة في أهدافها .. كيف تحولت الثقافة، في أحيان كثيرة، إلى عائق بدلا من أن تكون دافعا للاستنهاض القومي الشامل؟ ثم ما الذي تحتاجه هذه الثقافة لكي تعيد تغيير المجتمعات العربية ، وتنقلها منحال الضعف إلى فضاء النجاح والثقة والانجاز لمواطنيها ؟ منذ وقتطويل. وليسصدفة أن تكون – بامتدادها على رقعة العالم العربي – هذه الأسئلة وغيرها مطروحة على الجماعة الثقافية الثقافة محورا رئيسا للعمل العربي المشترك، فالعمود الفقري يتمثل في الرابطة الثقافية واللغوية بين أعضائها من الدول التي يتحدث جميع سكانها اللغة العربية، ويربطهم التراث العظيم للثقافة العربية الرائدة. هذه المنظمة كان من أوائل انجازاتها صدور بهدف « التعرف بالثقافة العربية وتنشيط حركتها، وتعزيز اللغة العربية 1945 نوفمبر 27 « معاهده الوحدة الثقافية العربية « في هذه الاتفاقية المدخل الحقيقي لانجاز الوحدة العربية – وعن حق – وجميع روافدها الحضارية والتراثية الأصيلة» . وقد اعتبر البعض المنشودة. فالثقافة هي الجامع الحقيقي بيننا. والحاضن لطموحاتنا وأحلامنا المشتركة، حتى لو فرقت بيننا السياسة وتقلباتها. . 1964 في عام – وعلى نفس الطريق جاءت الخطوة الهامة الثانية في إنشاء « المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة « ألكسو والحقيقة انه برغم الجهود الكبيرة التي تقوم بها هذه الهيئاتوالمنظمات، فإن الشوطمازالطويلا امامنا لكي نشعر بالطمأنينةعلى حال الثقافة العربية، وعلى دور المثقفين العربفي البناء الوطني الشامل... بعضالمثقفين يشعر بالتهميشمن السلطة، وبعضهم الأخر يكابد مشاعر اليأسوالغربة عن المجتمع ولسان حاله ما قاله فليسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، أبو حيان التوحيدي، عن « الغريب الذيطالتغربته في وطنه» . الثقافة العربية تبدو اليوم محاصرة، وكأنها تقفعلى جزيرة معزولة وسطمحيطهائج ومضطرب .. ليسباستطاعتنا الوصول إلى بر إلى أربعهجسور رئيسيةلاغنيعنها لتأسيسثقافةعربيةسليمةصحيحة – في رأيي – الأمان إلا بمد الجسور ... يحتاج المثقفون العرب ومبدعة . الجسر الأول يصل المثقف بعصره، ويربط الثقافة العربية بنظيرتها العالمية. أما الجسر الثاني المطلوب فذلك الذي يصل الثقافة العربية بماضيها . ذلك ان الانطلاق إلى الحداثة لا يجب أن يعني الانسلاخ من التراث او نبذه او التبرؤ منه . الجماعة – الجسر الثالث المطلوب هو الجسر الذي يصل المثقفين العرب بأهل السلطة والحكم ، ذلك أن الهوة بين الجماعتين هي المسئولة عن الكثير من التوترات في المجتمعات العربية .. ليسمن مصلحة أي حكم تهميش – المثقفة والجماعة الحاكمة المثقفين .. ولا أرى أن من مهام المثقف وضع الحُكم موضع الاتهام الدائم .. صحيح أنه من طبيعة دور المثقف نقد الحُكم، ولكن من واجبه كذلك أن يكونشريكاً في البناء عبر تقديم البدائل .. يتعينعلينا أن ننتقلمنمرحلة العداء والمنافسة بين قصور الحُكم وأروقة الجامعات ، إلى فضاء من التعاون بينهم . أما الجسر الرابعوالأخير ، وفي تقديري أنه الأهم، فهوذاكالذي يصل المثقفالعربي بمجتمعه .. وأقول بكلصراحة إن الأحداثالتيعصفت ببعض دول العالم العربي في السنوات الخمس الماضية كشفت عن هوة واسعة تفصل بين المثقف وواقعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي .. صحيحٌ أن المثقف يٌفترضفيه أن يجسد الحُلم بالأفضل والأمل بالتغيير ، ولكن التغيير الذي لا ينطلق على أسسسليمة يصير قفزةً إلى المجهول وربما رِدة لما هو أسوأ .. إن دراسة الواقع العربي ، وتكوين – بكل مفرداته وتفاصيله – راسخة على أرضالواقع معرفة علمية دقيقة بحال المُجتمعات العربية هو المهمة الأولى للمثقف .. وهي مهمة تزداد صعوبة كل يوم . فالمجتمعات العربية عاماً ... هذا يعني أن الواقع العربي متُجدد ومتحرك.. على المثقفملاحقة هذا 25 منسكانها أعمارهم تقل عن %6 مجتمعاتشابة .. الواقع ، وعدم الانفصالعنه أو الاستعلاء عليه.. فمنه، ووفقاً لمُحدداته ، يُمكن الانطلاق إلى المستقبل المأمولعلى أرضصلبة واثقة. أخيراً أقول هذه رؤيتي لواقع الثقافة العربية الراهن.. وأنا أثق أن المثقف العربي .. وهذه الأمة العربية القادرة ...سوف تنجح في مواجهة التحدي الضاغطعليها في اللحظة الراهنة .. وسوف تتحاكى الأجيال مستقبلا كيف نجحنا في الاستجابة للتحدي . احمد ابو الغيط أمينعام الجامعة العربية 174 العدد 106

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI2MTI5NQ==